الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا نزاعَ بين علماء المسلمين في أنَّ كُلاًّ من القرآن والسنة وحي من عند الله تعالى، وأنَّهما المصدران الوحيدان لهذه الشريعة، وينبوعها الذي تتفجَّر منه، وأنَّ ما سواهما من أدلةٍ - مهما تنوَّعت وتعدَّدت - راجعة إليهما، ومستوحاة منهما.
والقرآن الكريم والسنة الشريفة مصدران يشد أحدهما الآخر، ولا ينفك عنه في إثبات أكثر الأحكام، لكن كونهما تنزيلاً ووحياً وذِكراً محفوظاً لا يعني أنهما يتساويان من جميع الوجوه، حتى لا نقعَ في الغلو والتفريط من حيث لا نشعر.
فالقرآن هو الأصل الأوَّل والرُّكن الرَّكين لهذا الدين، شَرُفَ بنسبته إلى الله تعالى؛ فهو كلامُ الله، وكتابُه، وهذا شرفٌ لا يُدانيه شرف، ومكانةٌ لا تُقاربها مكانة؛ وقد أوكل لنفسه الشريفة سبحانه وتعالى حِفْظَه فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، فعجزت الأيدي العابثةُ أنْ تمتدَّ إليه، على كثرتها؛ فهو في ذمَّة الله.
والسُّنة النبوية على عظمتِها وعظمةِ مَنْ نُسِبَتْ إليه؛ إلاَّ أنها لا تُقارن من هذا الوجه بعظمة القرآن.
وقد فَطِنَ علماء الإسلام لذلك، فبيَّنوا وأكَّدوا على أنَّ هناك فروقاً جوهرية ين القرآن والسُّنة، ومن أهمها[1]:
1- أن القرآن كله كلام الله تعالى، وأما السنة فمنها ما هو كلام الله؛ وهي: الأحاديث القدسية، ومنها ما هو كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو من كلام الصحابة يصفون أفعالَ النبي صلى الله عليه وسلم.
2- القرآن معجز بلفظه، أما السنة فليست معجزة بلفظها حتى ما كان من كلام الله؛ كالأحاديث القدسية فإنَّ الله تعالى لم يتحدَّ بألفاظها كالقرآن الذي يُعتبر المعجزة الكبرى التي بُعث بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وتحدَّى بها الإنس والجن؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: ٨٨]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إلاَّ أُعْطِيَ ما مِثْلهُ آمَنَ عليه الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الذي أُوتِيْتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم الْقِيَامَةِ)[2].
3- القرآن متعبَّدٌ بتلاوته، وثبت أنَّ قراءة حرفٍ واحد منه بعشر حسنات، أما السنة فلم يتعبَّد اللهُ العبادَ بتلاوتها، وإنما وردت فيها أجورٌ مخصوصة في الالتزام ببعض الأذكار فيها، كما أنَّ مُدارستَها ومُذاكرتَها وقراءتَها تدخل في صُلْبِ طلب العلم النافع، وهو من الأعمال الصالحة التي يُجازى عليها العبد.
4- القرآن كلُّه منقول بالتواتر، وأمَّا السنة فمنها ما هو متواتر، ومنها ما هو من أخبار الآحاد.
5- القرآن يُتغَنَّى به تلاوةً وتجويداً وتحسيناً للصوت؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ)[3]. أمَّا السنة فليس مطلوباً فيها هذا التغني والتجويد والتحسين.
6- لا تجوز قراءة القرآن بالمعنى في الصلاة، ولا الرواية به بالمعنى بإجماع المسلمين، وأما السنة فلا بأس بروايتها بالمعنى بشرط ألاَّ يؤدِّي ذلك إلى تغيير المراد من الحديث أو تحريفه؛ لأن ألفاظها ليست مقصودة لذاتها كالقرآن إلاَّ ما جاء في بعض المواطن الخاصة؛ كالأذكار المقصودة لفظها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي غيَّر لفظاً في ذكر من الأذكار التي تقال قبل النوم: (لا، وَنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ)[4]. بدلاً من لفظ: (وَرَسُولِكَ)، فصحح له الخطأ.
7- تحرم قراءة القرآن في الركوع والسجود، أما السنة فتُشرع أذكارها في مثل هذين الموضعين.
8- لا يجوز للجنب قراءة القرآن؛ بخلاف السنة.
9- تسمَّى فواصل القرآن آيات، وجُمله سُوَراً، أما السنة فيطلق على وحداتها الأحاديث أو الأخبار أو الآثار.
والخلاصة: إنَّ العلماء ذكروا في القرآن تعريفاً اصطلاحياً يُقرِّب معناه ويُميِّزه عن غيره، فعرَّفوه بأنه: (كلامُ الله، المُنزَّل على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المُعجِزُ بلفظه، المُتعبَّدُ بتلاوتِه، المكتوبُ في المصاحف، المَنقولُ بالتَّواتر).
[1] فيض الرحمن في الأحكام الفقهية الخاصة بالقرآن، د. أحمد سالم ملحم (ص21-29)؛ طليعة البرهان على أن السنة محفوظة كالقرآن، محمد بن أحمد الشنقيطي (ص85-87).
[2] رواه البخاري، (4/ 1905)، (ح4696)؛ ومسلم، (1/ 134)، (ح152).
[3] رواه البخاري، (6/ 2743)، (ح7105)؛ ومسلم، (1/ 545)، (ح792).
[4] رواه البخاري، (1/ 97)، (ح244).